الحجر


            يقف صبيٌ منتصبًا أعلى حجر كبير مربوط بحبل مجدول في سور جسر يصل بين يابسين، يرقد النهر أسفله وبالكاد يتموّج لأنسام المساء الصيفي.
تبدو البنايات على الجانبين حول برج القاهرة شاهقة تعانق السماء، ومصابيحها الملونة تراقب الصبي الذي يعتلي سور الجسر ويهتز مع هزاته عندما تتزاحم العجلات على طوله وتتثاقل كوحوش تنقض على الأسفلت فتأكله ركضًا وتخلفه ميتًا. يلمع القمر في عينيه اللتين تغوصان في نهر آخر من الحزن المكتوم وكأن زمن عمره القصير يحيك أسفل عينيه همًّا فوق هم فتراكم السواد، ويداعب الهواء شعره فيتطاير مع أطراف ملابسة الرثة. يجول الأسى بين ملامحه فيفشي أسرار تشرده وشقاءه. تنكمش أصابع قدميه تَشبُثًا بالحجر ويشهر بين كفيه لافتةً قد نُقشت عليها كلمة واحدة.

يرمقه المارة بنظرات الدهشة ، تنهشه استياءً واستنكارًا كأنهم يراقبون بقايا بشري مسته ضروبٌ من الجنون!
"
انزل يا ولد ستسقط"
يقولها أحد السائقين ثم تسرع مركبته في طريقها تدهس الأسفلت فتصدر صريرًا عاليًا يختلط بإيقاع موسيقى صاخبة وأغان شعبية تنبعث من باخرة شقت النيل في نزهةٍ مزعجة. تلونت المياه حولها بألوان أضوائها المرتعشة، الحمراء والخضراء والصفراء، يرقص الناس داخلها رقصًا شرقيًا ويصفقون ويهللون فيبدو الحفل كعرسٍ بدون عروس.

اجتمع الناس أمامه كسِربٍ من النمل يلتف حول قطعة سكر، فجال بعينيه بينهم مرسلاً نظرات استعطاف ورجاء، وحمله الأمل إلى التشبث بالحجر أكثر دون السقوط ، لعلّ قد نزل فيهم رجاؤه منزلة الرحيم المغيث ، ولعل يتغير مصيره من وجبة في جوف الأسماك أو نومة على أحد الأرصفة إلى وجبة عشاء هانئة وليلة نوم هادئة ، وعسى تمسك بكفِه الصغير يدٌ تصحبه إلى طريق يقع على مداه منزلٌ آمن أو مدرسة.
أما الواقفون فيتهامسون ويتغامزون مشيرين إلى اللافتة التي يحملها ويتسائلون بسخرية عن الكلمة الوحيدة التي نُقشت عليها ؛ "انقذوني"
ممن ننقذه؟ من الجسر أم من احتمالات السقوط؟! ما الذي يمكن أن يكون قد دفعه إلى حافة الخطر إلا رغبةٌ صبيانية ؟!  إنه لابد مجنون!

قال أحدهم : إنها أحدث الطرق المُثلى للتسول!
ضحك الناس وازداد عددهم. وظن الولد الذي كان يرمي إلى ما أبعد من المال أن واحدًا منهم قد رق قلبه وعزم على منحه بضع قروش، إلا أنه أخرج من جيبه هاتف جوال، ورفعه في مواجهة الصبي والتقط عددًا من الصور، ثم بدأ يقلده الآخرون. بلغ الولد الذي كانت تبرق هيئته أمام فلاش الكاميرات، قمة يأسه، وأدرك المصير الذي سيبتلعه بعد قليل، فتبدّلت ملامحه بين الخجل والخوف. أصابته دمعة استحضرت أثناء انهيارها على وَجَنتِه لقطات لحياته بين طمي ضفة النهر وكسرات الخبز التي يجنيها من سؤال البيوت وركلات الأسطى الميكانيكي بينما يرقد أسفل إحدى العربات وحصىً قذفه في ظهر واحدٍ ممن ردّوا سؤاله.

وذات هزة اشتدت فيها العجلات على الجسر، ارتخت قدماه وودّعت الحجر، واقتنصت مقلتاه من الدنيا نظرةً أخيرة محملة بالرعب والفزع، واسترقت أذناه شهقات الواقفين وآخر أنغام الأغنية الصخبة بالباخرة، وفغر فاه وطاحت ذراعاه وطارت الورقة.
إلتصق الناس بالسور يتابعون الصبي الذي حلق بلا أجنحة وتلاحقة أضواء الفلاش حتى عانق الموت ففارت الماء وغضبت وتراكم على صفحتها فقاقيع كثيفة.
"
انقذوا الولد"
قيلت، ثم غاب القائل الحزين!
الدهشة تحط على رؤوس المتفرجين، حتى يمر رجلٌ فيما بينهم فيسأل "ما الأمر؟"  فيقولون "انتحر الولد المجنون".
ومازالت الباخرة تبعث صخبًا، والهواتف ضوءًا، حتى بدأت الماء تهدأ رويدًا وتعود باردة راكدة كما كانت.




هدير زهدي
2015

تعليقات