الباب المفتوح



     تفر البنايات من خلف نافذة العربة وتهرول إلى العَدَم. تستلقي رأسي على الوسادة وسط ضوضاء مغلف بالهدوء. تتسابق الأفكار والذكريات على المرور أمام عيني فيتغير شعوري بين ذكرى وأخرى. يبكي قلبي لقسوة زوجي السابق ثم يضحك لضحكة رضيعي، وبينهما أتأرجح بين الجحود والرحمة. لم أستطع ترك الأفكار مع رضيعي ومُربيته في البيت ويبدو أنها التصقت بي أينما ذهبت، والسكون على بالي مُحرّم.
رأيتُ في زيارة قبر أمي فكرة جيدة، حيث اعتزال الحياة والناس بظنونهم وثرثرتهم. فالمدافن قطعة من السماء. يرقدون في هدوء مطبق فلا يبلغ الأحياء صراخ مُعذّب أو نعيم مُنعَم.

نزلتُ مع أختي يدًا بيدٍ من العربة أمام بوابة مدافن العائلة، وعند العتبة استوقفتني الحياة !
سألتني: هل أنتِ حيّة أم ميّتة؟
شهقتُ وأجبتُ بلا تفكير : حية !

تبعتُ أختي التي كانت تحفظ المكان جيدًا. كان خاويًا إلا من شواهد القبور، صامتًا إلا من صفير الهواء. وقفنا أمام قبر بلا شاهد. صفّقت أختي بيديها وانتظرنا.
تأملتُ كآبة المكان وسمعتُ صراخًا بعيدًا ممزوجًا ببكاء رضيعي فعادت نفسي إليه واشتاق صدري لضمته، ورأيتُ يومًا كان يجمعني به وأبيه ثم يومًا صببتُ فيه غضبي على المرآة فتَهَشَمت معها صورتي وروحي وهُويتي. وعدني أنه لن يتخلى عني حتى الممات، ولكنه لم يتمسك بوَعده. والجثث من حولي ترقد وحيدة دون حبيب أو ولد. ورأيتُ ولدي قد شبّ فجأة وغادرني وحدد اقامتي بين شَيبي وغرفتي.

أُغلِقت في وجهي أبواب الأمل والحياة وانفتح باب المقبرة.
تصاعد دخان عبر الدرجات التي تصل لأسفل الأرض، ثم ظهر جلباب يستر رجلًا قصيرًا يحمل نرجيلة. سار بخُطى ثابتة وتبِعناه بين ممرات النُصُب حتى بلغنا قبر أمي.
يلمع تجويف نقش اسمها على الرخام كأننا قد دفنّاها أمس. رفعنا أكُفنا وقرأنا الفاتحة ثم أطَلتُ النظر إلى النقوش، الاسم والتاريخ، حرف حرف ورقم رقم. أردتُ استفزاز بعض الدموع ولكن استعصى عليّ الدمع ولا أدري علّته.

شكوتُ لها ظُلمة الأيام ،
لماذا يا أمي علينا أن ننتظر مُستقبلًا لن يحمل لنا ما نريد؟ ظننتُ ذات ليلة أن عشر أقراص من المنوّم تفي بالغرض. وعندما لامس فمي حافة الموت علقَت روحي بكلمة "ربما". أدركتُ أن قرار الموت يحتاج شجاعة أكثر مما تحتاج مُجابهة الحياة. وعندما يكون على بُعد سنتيمتر واحد منّا نستجدي الأمل من لا شيء لنرفع عن أجسادنا الألم !

     رأيتُ خيالًا أسود يقترب وعلمتُ من عباءتها أنها بائعة الورد.   
قدّمَت لي الأزهار وقدمتُ لها ما أجود به. وضعتُ الباقة بجوار القديمة الذابلة ثم التقطتُ إحدى الورود الجافة وقرّبتُها من أنفي فوجدتُ لها عبيرًا رغم موتها !
وبينما أستنشق رحيق الموت سمعتُ نحيب أختي، فمازالت غارقة في الشكوى. ربتُّ على كتفها وقلتُ: فلنرحل.

وعند عتبة الخروج وجدت الحياة ثانيةً تقف عاقدة ساعديها وسألتني بتحدٍ: هل أنتِ حيّة أم ميّتة؟
فقلتُ لها: الحياة تنتظرني على فراش مولودي.


هدير زهدي
2016


تعليقات