الباب المُغلَق

كتاب لست نبيا الباب المغلق
قصة قصيرة من كتابي لستُ نبيًا


هل عليّ أن أخبركم بالسر الذي يكتمه صدري خلف الجلباب؟
لا والله! لقد حفظتُ العهد حتى لا يتسخ بألسنة البشر. الذنبُ ذنبُكم ، فما وجدتُ فيكم حافظًا لحُرمة الأسرار ولا مُدركًا لطِيب النوايا. فتصطنعون ملامح المحبة بينما تصرخ بواطنكم باللعن والسُباب!
أعرف قصة كل واحدٍ منكم رغم امساكي عن محادثتكم، ولكن شذرات النميمة تخترق الجدران والنوافذ وإن كانت مغلقة.
ما لكم تصنعون مُخبرًا ليراقب شيخًا يقل عُمره عن عُمر هذه البناية العتيقة بسنواتٍ معدودة، ويتأذى من روائحكم وصوت خطواتكم ونباح ضحكاتكم.
ألهذا الحد تُزعجكم العزلة كما يُزعجكم الضجيج؟ أم أن عيونكم المتطفلة لا تتمالك نفسها من الفضول على باب شقتي البائسة صعودًا وهبوطًا من الدَرَج؟  تكاد تخترق الخشب لتفتك سَتر العجوز الذي لا يتسرب من بابه صوتٌ، ولا يغادره إلا لشراء كسرات الخبز.
لِمَ تغتابون رجلًا بالتُهم وكأنه يحتال عليكم بِصَمتِه؟!
شحاذ؟
مخبول؟
هارب؟
وفي النهاية لص!
إذ يصرخ أحدُكُم ذات ليلة ويرثي أمواله وذَهَب امرأته، فتجمعون شكوكم أمام بابي وتدسّونها دسًّا لتتسلل عبر ثقوبه!  تستدعون الشرطة، وتصّوب أصابعكم الاتهام نحوي، ومن بينِكم فاعِلها يزيح عن نفسه شبح الاشتباه ليُلصِقها بالمُسن الغامض.
تندهشون لأن الشيخ لم يدافع عن نفسه، فتزدادون تمسُكًا بادِعائِكم لأن الصمت في أعرافِكم دليل الاعتراف!
هذا فقط ما تعرفونه عن دنياكم!

     لم أطلب سوى اصطحاب هذه اللوحة التي يكمن السر كله بين أُطُر بروازها الأربعة.
ملامح لا تُضاهيها براءة، وقلب لا يمكن أن يصادفه إنسان إلا مرة واحدة كل جيل. لم تكن كأي امرأة.. لم تكن كأي زوجة.. الوفاءُ يَعبُر عبر الأزمان كلها ويتركز ويتجسد في صورتِها. الرفيقة والحبيبة والأم والسَكَن.. هي الوَطن!
ترفع رأسَها وتتضرع بدعاءٍ، فتخجل ألا تستجيب السماءُ. تتقلب القلوب بين اخلاص وغدر، إلا هي! صدرها وسادتي وحضنها ملجأي، تسحب عن رأسي الهم والتعب والكلل، ترافقني في رحلات الخيال إلى عالمٍ هادئ تحفه طيور السلام وتبني لي الآمال حين يحتال على صدري اليأس والانهزام.
     سرقَتها مني أنقاض القصف، وحَكَمَت عليّ بالتشرُد!
للمرة الأولى تجرعتُ الهزيمة لما انهار وطني تحت الأنقاض مغموسًا بالغبار والدماء.
لن تموتي!
إن كان نصيبك الموت فماذا يكون نصيب الذين أشعلوا البلدة فانقلب الليل نهاراً في منتصف الليل؟!  تكلمي، فبدون هذا القلب لا تكون الحياة.
هِمتُ في الشوارع حاملًا أشلائها المقدسة ، أطوف بين الخراب والجثث عساي أجد مُجيبًا لأسألتي، حتى وصلتُ إلى النهر لأغسل جسدها الطاهر.
النهرُالأحمر!
ماؤه دماء ، وضفتيه أشلاء.
احتواني الجنون! ومَزّق حَلقي الصراخ، لماذا؟ .. لماذا؟

     لِمَ أدافع عن نفسي في عالم لا وجود له في وجداني! خلف هذه الزنزانة أرقد مُحتضنًا لوحتي، أهمس إلى الله راجيًا أن يقلل عُمر انتظار لُقياها.
توقفوا عن احضار بقايا الأطعمة للشيخ البائس، توقفوا عن التحقيق معه، لا تُصرُّوا على اقلاعه عن صمته، واتركوا هذا الجسد الهزيل الضال يعود إلى وطنه.



هدير زهدي

 2016

تعليقات