ظل الرصاص
يسقط الرجل أرضاً من فرط أعباءه، يحتال جسده
على العشب فيدهسه ممدداً فوقه. تتغلغل في نتوءات وجهه آشعة الشمس، تحتضنه وتحتضن
فأسه المستلقي بجواره. عيناه زائغتان في بحر الأفق الفسيح تكاد تلتقط طيراً يخترق
صفوه محلقاً من الشرق إلى الغرب، فتتحرك حدقتاه معه، ويئن صدره ويطرد الآهات
المكتومة حلقُه في زفيرٍ ساخن يفضح قلبه المحترق.
واأسفاه عليكِ يا
زهرتي الوحيدة! ما كنتُ أملك في حياتي سواكِ وقوتَ يومٍ بيوم. اقتلعوكِ باكراً قبل
موسمك وتقاسموا عطرَكِ سلباً ونهباً ثم دهسوكِ لما سأموا.
يهمس صوتٌ رفيعٌ :
لي نصلٌ حاد..
ويحرك الرجل
ذراعيه حركاتٍ دائرية مشيراً بإصبعه على المدى.
هنا يمر فوقي
كوبري، وهناك تلوح أسقفُ البيوت المهيبة
تعانق السماء، شامخةً بالنهار موحشةً بالليل كالأشباح التي لا تعرف الرحمة !
وهنا يرقد
المسكين!
يعلو الهمس ويرن :
لي نصلٌ حاد..
المسكين الذي
تبغضه الأرضُ، وربما تلفظه حين يُرَدُ إليها صريعاً ! يحمل ثوباً مهترئاً و فأساً مثقلاً بسنوات
الحرث والزرع.
أتقول أن لك نصلاً
حاداً لم تثلمه السنون؟ بم تحادثُني يا فأساً قد ماتت على نصله الأماني؟ وقد أبرمتَ معي عقدَ الصداقة الأبدية عُنوة؟
ألم ترَ تلك
اللوحات التي يرسمها أولئك في منازلهم العظيمة؟
تزهو ألوانها في ملابسهم ومراكبهم ، وأشم لذة نضجها تتطاير من نوافذهم ،
وأراها تتقافز في عيونِهم التي تزدريني، فلستُ أكثر من ظلِ قلمٍ رصاص يملكون
ممحاته !
فمتى يطلقون سراحي
من هذه اللوحة التي تأسرني بأغلال تشبثِ روحي في الحياةِ رغم بؤسها ؟!
واأسفاه يا زهرتي!
تتراءى لي
ملامحُها بين خطوط السحاب، ويمرر النسيم على أنفي عبيرها ، تنهرني وتصرخ : ماذا
فعلتَ بي؟ كانت تليق بي حياة الكرام لولا نشأتُ في حقلِك وارتويت من قنوات شقاءك!
ويصرخ الهامس
آنفاً : لي نصلٌ حاد..
لا يعلو صوتك فوق
صوتها ، ودعها تجلدني بالتوبيخِ والتحقير، فلولاكَ ما ذبِلَت ، ولولا إلتصاقكَ بي
خليلاً ما وَهِنَت !
أين اختفت
أشواكُكِ ومخالبُكِ حين إمتدات إليكِ أيادٍ آثمة ؟ لِمَ لم تبديها بدلاً من عطرِك الأخاذ وثمارِك
غير المكتملة ؟
نصلٌ حاد ؟؟
لو ألتقطُ أحدهم
ليلاً وأسوقه إلى نفس الغرفة النائية التي تكالب فيها أبناء البكوات ينهلون من
أريج زهرتي قسراً حتى الموتُ عاراً !
وبعد أيام ، أظلمت
المقاطعة بالكامل ، وفاحت في أرجائِها رائحةُ العفن!
هدير زهدي
تعليقات
إرسال تعليق