قلبٌ للبيع
على أول الطريق الواصل إلى السوق رميتُ أول خطواتي حاملاً سلة صغيرة من
الخوص مغطاة بمنديلٍ أبيض، تنبض بخفة كبندول الساعة فيتهز ذراعي ويرتعش طرف كُم
جلبابي الأسود.
مشيت في المنتصف بين عربات الخضر والفاكهة المصطفة على الجانبين. اصطدم
ببعض المارة من الرجال والنساء حاملي الأكياس فلا يلتفت أحدهم. وأطفال يلقون عليّ
الحجارة ويهربون فلا أمسك بهم ولا ثمة وقور ينهرهم، فأرفع عن سلتي المنديل وأطمئن
علامَ تحتويه عساه بخير ولم يمسّه مكروه. أحاول لفت أنظار المارة بما تحويه سلّتي
علّني أجد مهتماً، وقفتُ وسط السوق وناديتُ بصوتٍ عالٍ :
"قلب للبيع!"
أحاطت بي نظرات الاستهزاء دون أن يستوقف أحدَهم قلبي! كررتُ النداء فلم
أجد مجيبًا، فعلمتُ أنني لن أجد لقلبي صاحبًا جديدًا.
سألني عابر سبيل مستنكرًا: ألم تجد سوى هذا السوق لبيعتِك؟!
قالها وفارقني.
بل تبغضني الحياة هاهنا بقلبي هذا.. تهتُ بين ضواحي المدينة الجاحد أهلها
بعد أن نزحتُ من بلاد الياسمين البعيدة التي هجرها كلُ ساكنيها فاستحال فيها
الأخضر إلى قفارٍ تحجرت وتشققت من العطش، وقصدتُ أولَ مدينة عامرة، فصعبت عليّ
الحياة بينهم فسلكتُ سبيلَهم وفعلتُ فعلتهم ونزعتُه عن صدري عساي أجد له بيعةً فأخفقتُ
ولم أجد مشترٍ واحد!
راودتني فكرة أن ألقيه جانبًا على الطريق، فتمهلتُ، ولمحتُ عند أطراف ظلي
كلبًا ظننتُه يتبعني، فأسرعتُ الخُطا خوفًا. استوقفتني عجوز شعثاء الشعر لا أدري
من أي مخبأ خرجت! أغرقها الشيب ونحت عظام وجهها الزمن، قالت أنا سأشتري قلبك.
ولِمَ تشتري قلبًا لا يعينك على الحياة في هذا المكان؟! قالت سأهاجر بعيدًا
حيث لا سبيل للعودة، وحيث لا يُقبل إلا أصحاب القلوب الرقراقة، فاعطني إياه ولا
تسأل عنه لو حان موعدك، وطف في المدينة أعوام وأعوام ربما يبلغ حظك حينئذٍ ما
بلغتُ فيك.
رفعتُ طرف المنديل فأدهشتها صورتُه.
أيها الصغير الجميل، كل شيء جاهز لاستقبالك، والفراغ المظلم يتأهب شوقًا لتشريفك
الوردي النابض بالحب، فاملأه خيرًا واغمره سلامًا.
رفعتُ المنديل كاملاً عن سلّتي فانجلى نبضه المتزن وحمرته القانية
كوَجَنَةِ حسناء احمرت خجلاً، فحملتُه برفق وقدمته لها. باغتنا كلبٌ ظهر فيما
بيننا فجأة قافزًا قفزًا عاليًا، وخطفه بين أنيابه ثم ركض مسرعًا. عدوتُ خلفه
بينما تعثرت العجوز وسقطت تمد يدها بخيبة أمل وتودِع آخر نظراتها القلبَ الضائع.
أما الكلب فقد اختفى بين غبار أقدامه، فتتبعتُ قطراتَ دماءٍ قد انفلتت
منه حتى انقطعت آثارها على كومةٍ من التراب منقوشة بأثار أقدامه الأربعة!
--------
هدير زهدي
26/9/2015
تعليقات
إرسال تعليق