قلبٌ ورصاصة

قلبٌ ورصاصة
قصة قصيرة من كتابي لستُ نبيًا


     النار تضرب الساحة ، والأرض أصابتها من الدماء شهوة ، تعلو ألسنة اللهب متراقصة على صراخ الجرحى، تعانق أدخنتها عزرائيل السماوات. القتلى بين الدبابات كأكوام الحطب المرصوص، والموت حطّاب يتعاطى الرعب من عيون فرائسه، يركض خلفه الأحياء، إما بلطته أو النصر. اختلطت رائحة البارود بزفير المنايا المكتوم داخل صدور من هم بين الموت والحياة ، نفوس عالقة على طرف الأنوف تخطف عيونهم من الدنيا آخر مشاهدها الدامية.
لم أتمالك بندقيتي عندما صفع الرصاص صدر صديقي، فحملتها عن شمالي وأخذته بين ذراعيّ وتحركتُ أجر ساقيّ بعجالة قاصداً أقرب مخيم للتداوي. تركته لدى الأطباء بعد أن تشبعت سترتي بدماءه ثم هممتُ بالعودة حيث ثكناتي.


     "الحرب .. الحرب"
ركضتُ لاهثاً للحاق بصفوف من تبقى من الرفاق، وصور الحرب تسيطر على مخيلتي، لم يستوقفها سوى طيفٌ مترنحٌ لمحته. اقترب أكثر فبدت لي سترة عدو أعزل، يتمايل كمن اجترع من الدماء حد الثمالة. فشهرتُ بندقيتي، ألّا مفر لك سوى بارودها.
جثا على ركبتيه وأسند يداه إلى الأرض في إعياء شديد، وقال لي منكساً رأسه : حدثني عن جبن الفرار وعزة الموت إن كنت تعلم لِمَ تقاتل!
أخبرني أنه أحوج إلى صديق منه إلى عدو. وأن هذا العداء الذي لا يؤمن به قد أوشك على انتزاع روحه كما انتزع انسانية كل الوحوش العطشى للدماء في ميدان المعركة ويطلبون المزيد بشراهة.
قال بصوته المتهدج من أثر الجراح : إن قذفك في مكان يجبرك على أن تكون قاتلاً أو مقتولاً يجردك تماماً من كل معاني الانسانية، ويجعلك أقل منزلة من الحيوانات التي تقتل لتأكل. أما نحن فنقاتل من أجل من أطبقوا على أرواحنا بأياديهم ثم اتفقوا على عداء أبدي! ولا أدري من أقتل، فلغتك تشبه لغتي وملامحك تشبه بلدتي. لا أعرف غير أنهم قد أمروني بالفتك بكل من يخالف زيّي. وربما تصيب رصاصاتي المتوالية  واحداً من نسل أكبر جدودي.. فماذا عساي أقول لأسلافي ؟!


     ارتخت يدي على زناد البندقية، وأحنيت قامتي قليلاً محاولاً تأمل ملامحه عسى أقرأ فيها حيلةً غادرة. رفع رأسه وبدت عيناه الممتلئة تغسل اتساخَ وجهِه، يلتقي حاجباه، ترتعد شفتاه بأسى وينفث نحيباً مصطنعاً. استحضرتُ ملامح صديقي في لحظةٍ خاطفة، ثم عدتُ لوجهه فرأيته مجرد رجلاً ربما قد آلمه الندم عندما أوشكت النهاية!  ولم تميل نفسي لتصديق آخر ما تبقى من أشلاء انسانيته، فتشبثتُ ببندقيتي استعداداً لغدره.
قال إن للموت رهبةً عظيمة تستخرج منا قوة لم نحسب أنها فينا! شجاعة لا ترافقها مروءة ، فأبلغ أمنياتك هنا أن تحافظ على روحك لأطول فترة ممكنة، وسيد القوانين هنا أن تعيش بلا فضيلة وتموت بلا ثمن!
لم أشأ أن أقول أنني قد فشلتُ في أن أحيا كما تمنيت، ولكن طالما لدي زفير، ولو كان الأخير، سأظل اتمنى أن يمهلني العمر لأقول أنني لم أنجح بعد..
خارت بقايا القوى في جسد الرجل فاستلقى على الأرض محتضراً وهمس لي : اقتلني!

     توقفت أفكاري عند رجاءه! ووجدته مستسلماً تماماً للموت فحار عقلي حينئذٍ وكاد قلبي يرق. أين أنا من دوي قنابل لا تدرك الرحمة وأنين أعزل لا يقوى على قتالي! وأين هو من لسان صدق ورصاصة في صدر صديقي! كيف أختزلُ في لحظة اجابة سؤال قد يطول عمر استكشافه لسنوات!
يكرر كلمته فيطول صمتي وحيرتي، واصبعي بين تأهب وارتخاء على بندقيتي.

شهق وأنّ، ومال وجهه إلى الزرقة ثم تسلل منه آخر نفس قبل السكون .. تجمد وجهه وملامح الفزع تلتصق به حتى بعد أن تحررت روحه. جثوت على ركبتي بجواره، أهزه فظل جامداً. رحل قبل أن أتأكد من صدق أحاديثه، وقبل أن أقرر أن أسقيه شربة ماء.
وكان آخر ما سمعت قبل أن تغرق الدنيا في الظلام، صوت رصاصة مجهولة الهوية!


هدير زهدي
لست نبيًا - الكتاب متوفر عبر موقع جوميا من هنــــا










جميع الصور المرفقة من أرشيف حرب شناق قلعة - تركيا
Çanakkale Savaşı 1915–1916

تعليقات