الذكريات والذاكرة



أجسادُنا مرتبطة بأماكن قد لا تنتمي أرواحنا إليها. فنحن موجودون بأعمال العقل، إذ يبصرنا الناس نتحرك في نفس المدارات التي يتحركون فيها، يرون مظهرنا، ملابسنا، ملامحنا المادية، جدّنا وهزلنا، ضحكاتنا وعبوسنا، والعيون لا تدرك أبعد من ذلك.

أما للنفس قدسية لا تُخترَق بالأنظار. قد نحاول التعبير عمّا يكمن في أغوارها بالكلمات، وقد يخون التعبير، أو لا نلتقط الحرف المعبر عنها بإحكام، وقد نتعمّد أيضًا ألا نكون على قدر وافر من الصراحة والوضوح لأننا لا نجد من يشبهون أفكارنا وذكرياتنا. قد أعاني معضلة الآخر فيهم، وقد يعاني منها الآخرون في شخصي. فأنا وطنٌ لنفسي، وآخرُ للآخرين.

كلما أمضي في الحياة ويزداد إدراكي، يزداد معه الشعور بالغربة والحنين إلى ما كُنتُه في الطفولة وأفتقده. قبل فهم أي شيء، وحين كنا ممتلئين بالطاقة يدفعنا الشغف لاكتشاف العالم.
يتغير كل شيء عبر الزمن، أجسامنا، حواسّنا، رغباتنا، نظرتنا للحياة والأشياء، حتى شوارعنا، تغيرت أساميها ومبانيها. أمشي فيها وبالكاد أستحضر ذكرياتي المرتبطة بأماكن تشبهها، وكأنها تأمرني بطمس ذاكرتي والمضي قدمًا لكسب العيش. الأماكن تتنكر لي، تتآمر على ذكرياتي ليتقلص شعوري بالانتماء تدريجيًا. لا أري العفوية التي كان عليها الناس قبل زمن. عندما كنا نمشي في الشوارع ذاهبين إلى المدرسة صبيحة يوم الامتحان، والشرفات مفتوحة والنوافذ، تطل منها الأمهات، فنلوّح لهنّ بأيادينا طالبين منهنّ الدعاء فتستجبنَ وترفعنَ أياديهن. تتهادى إلى مسامعنا تراتيل الآيات بصوت الحصري وأشعار رامي بصوت أم كلثوم، مصحوبة بنداءات الباعة المتجولين، الروبابيكيا، البطاطا، البليلة، والطماطم الحمراء المجنونة. وتلك الشجرة العتيقة في الحديقة العامة التي كنّا نجلس أسفلها في إجازة الصيف نتناول المثلجات، وفي الخلفية نغمة منسجمة من الطمأنينة تنبعث من خواطرنا فنتشبث بالمكان.

اليوم النوافذ مغلقة، وكذلك النفوس. تشتتت الطمأنينة وصار المكرُ أغلب الظنون، قُطعَت الشجرة، واصفرّت الحديقة. وذاك التناغم المدفون في أعماق الذاكرة لم يعد محسوس لألتقطه واستحضره. أردت استرجاع الذكريات القديمة عندما فشلت في صُنع غيرها. لم يعد هذا العالم مُلائمًا لشغف الأحلام والمثابرة.

أيها العالم.. خذ الشغف واترك لنا حُلمًا، فلم يبقَ لنا سوى النوم!

 هدير زهدي












صور للقاهرة في التسعينات

تعليقات